فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)}.
من هذه الآية الكريمة نعرف أن بني إسرائيل رفضوا رزق السماء من المن والسلوى مع أنه كان رزقا عاليا.. عاليا في الجودة لأنه طعام حلو نقي شهي ينزل لهم من السماء مباشرة، وعاليا في الكثرة من أنه كان يأتيهم بلا عمل وبلا تعب وبكميات هائلة تكفيهم وتزيد.. وطلبوا من موسى طعام الأرض الذي يزرعونه بأيديهم ويرونه أمامهم كل يوم فقد كانوا يخافون أن يستيقظوا يوما فلا يجدون المن والسلوى. الحق سبحانه وتعالى يكمل لنا القصة في آية قادمة: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61].
فالله سبحانه وتعالى مازال يمتن على بني إسرائيل بنعمه وكيف قابلوها بالجحود.. فيذكرهم بإنجائهم من عذاب آل فرعون.. ويذكرهم بالبحر الذي انشق لهم فمشوا فيه ثم انقض الماء بعد ذلك على آل فرعون فأغرقهم.. ويذكرهم كيف أنهم عبدوا العجل بعد ذلك.. وكان من الممكن أن يهلكهم الله بذنوبهم. كما أهلك الأمم السابقة ولكنه عفا عنهم.. ثم يذكرهم بفضله عليهم بأن أعطاهم الكتاب الذي يفرق بين الحق والباطل.. ويذكرهم بأنهم طلبوا أن يروا الله جهرة.. فصعقوا وماتوا ثم بعثهم الله. ويذكرهم كيف ظللهم بالغمام من حرارة الشمس المحرقة.. ورزقهم بالمن والسلوى.. ثم يذكرهم بأنهم طلبوا طعام الأرض فاستجاب لهم.
في هذه الآية يقول الحق تبارك وتعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا}. وفي آية أخرى يقول: {رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمْ}. الفرق في المعنى أن قوله تعالى: {حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} تدل على أن هناك أصنافًا كثيرة من الطعام.
{ورَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمْ} يكون هناك صنف واحد والناس جائعون فيقبلون على الطعام.. عندما يقول الحق جل جلاله: كلوا رغدًا يكون المخاطب هنا نوعين: إنسان غير جائع ولذلك تعد له ألوانا متعددة من الطعام لتغريه على الأكل.. فتقدم في هذه الحالة {حيث شئتم} فيقال: {فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا}. فإذا كان الإنسان جوعان يرضى بأي طعام.. فيقال رغدا حيث شئتم.
إن المسألة في القرآن الكريم ليست تقديما وتأخيرًا في الألفاظ.. ولكن المعنى لا يستقيم بدون هذا التغيير.. قوله تعالى: {ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَةَ}. والقرية هي هنا بيت المقدس أو فلسطين أو الأردن.. الحق تبارك وتعالى يقول: {وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}.
والحق جل جلاله حين خاطبهم بين لنا أنهم لم يكونوا في حالة جوع شديد بحيث يأكلون أي شيء فقال: {فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} أي ستجدون فيها ألوانا كثيرة من الطعام تغريكم على الأكل ولو لم تكونوا جائعين.
وقوله تعالى: {وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا}. أي ادخلوا الباب وأنتم في منتهى الخضوع.
{وَقُولُواْ حِطَّةٌ} أي حط عنا ذنوبنا يا رب.. غير أنهم حتى في الأمر يغيرون مضمونه.. ويلبسون الحق بالباطل.. وهذه خاصية فيهم.. ولذلك دخلوا الباب وهم غير ساجدين.. دخلوه زاحفين على ظهورهم.. مع أن ما أمرهم الله به أقل مشقة مما فعلوه.. فكأن المخالفة لم تأت من أن أوامر الله شاقة.. ولكنها أتت من الرغبة في مخالفة أمر الخالق وبدلا من أن يقولوا حطة. أي حط عنا يا رب ذنوبنا قالوا حنطة والحنطة هي القمح.. ليطوعوا اللفظ لأغراضهم.. فكأن المسألة ليست عدم قدرة على الطاعة ولكن رغبة في المخالفة.
ومع أن الحق تبارك وتعالى وعدهم بالمغفرة والرحمة والزيادة للمحسنين.. فإنهم خالفوا وعصوا.. وقوله تعالى: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} يأتي في الآية الكريمة: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].
أي لهم أجر مثل ما فعلوا أضعافا مضاعفة.. وما هي الزيادة؟
أن يروا الله يوم القيامة. هذه هي الزيادة التي ليس لها نظير في الدنيا. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)}.
أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {ادخلوا هذه القرية} قال: بيت المقدس.
وأخرج وكيع والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: {وادخلوا الباب} قال: باب ضيق {سجدا} قال: ركعا {وقولوا حطة} قال: مغفرة قال: فدخلوا من قبل استاههم وقالوا: حنطة استهزاء قال: فذلك قوله عز وجل: {فبدل الذين ظلموا قولًا غير الذي قيل لهم} [البقرة: 59].
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {وادخلوا الباب سجدا} قال: هو أحد أبواب بيت المقدس وهو يدعى باب حطة.
وأخرج وكيع والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال: قيل لهم {ادخلوا الباب سجدا} فدخلوا مقنعي رؤوسهم {وقولوا حطة} فقالوا: حنطة حبة حمراء فيها شعيرة، فذلك قوله: {فبدل الذين ظلموا} [البقرة: 59].
وأخرج ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ والحاكم عن ابن مسعود أنهم قالوا: هطى سمقاثا ازبة مزبا. فهي بالعربية حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعيرة سوداء.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وقولوا حطة} أي احطط عنا خطايانا.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: {وادخلوا الباب سجدا} قال: طأطئوا رؤوسكم {وقولوا حطة} قال: قولوا لا إله إلا الله.
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله: {وقولوا حطة} قال: لا إله إلا الله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان الباب قبل القبلة.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: باب حطة من أبواب بيت المقدس، أمر موسى قومه أن يدخلوا ويقولوا حطة، وطؤطئ لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم، فلما سجدوا قالوا حنطة.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: {وادخلوا الباب سجدًا} قال: كنا نتحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس {وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين} قال: من كان خاطئا غفرت له خطيئته، ومن كان محسنًا زاده الله إحسانًا {فبدل الذين ظلموا قولًا غير الذي قيل لهم} [البقرة: 59] قال: بين لهم أمرا علموه فخالفوه إلى غيره جرأة على الله وعتوًا.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {وسنزيد المحسنين} قال: من كان قبلكم محسنًا زيد في إحسانه ومن كان مخطئًا نغفر له خطيئته.
وأخرج عبد الرزاق وأحمد والبخاري ومسلم وعبد بن حميد والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة، فبدلوا فدخلوا يزحفون على استاههم، وقالوا حبة في شعرة».
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دخلوا الباب الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدا يزحفون على استاههم، وهم يقولون: حنطة في شعيرة».
وأخرج أبو داود والضياء المقدسي في المختارة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله لبني إسرائيل: {ادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم}.
وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل اجتزنا في برية يقال لها ذات الحنظل، فقال: ما مثل هذه الثنية الليلة إلا كمثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل {ادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم}.
وأخرج ابن أبي شيبة عن علي بن أبي طالب قال: إنما مثلنا في هذه الأمة كسفينة نوح وكتاب حطة في بني إسرائيل. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {هَذِهِ الْقَرْيَةَ}.
هذه منصوبة عند سيبويه على الظرف، وعند الأخفش على المفعول به، وذلك أنّ كل ظرف مكان مختصّ لا يتعدّى إليه الفعل إلاّ بفي، تقول: صلّيت في البيت ولا تقول: صلّيت البيت إلاّ ما استثني.
ومن جملة ما استثني دخل مع كل مكان مختصّ، دخلت البيت والسُّوق، وهذا مذهب سيبويه وقال الأخفش: الواقع بعد دَخَلت مفعول به كالواقع بعد هَدَمت كقولك: هَدَمت البيت فول جاء دَخَلْت مع الظرف تعدّى بفي نحو: دخلت في الأمر ولا تقول: دَخَلْت الأمر، وكذا لو جاء الظرف المختصّ مع غير دخل تعدّى بفي إلا ما شَذَّ؛ كقوله: الطويل:
جَزَى الله رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ** رَفِيقَيْنِ قَالاَ خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ

والقرية المدينة، وهي نعت لهذه، أو عطف بَيَان كما تقدم، والقرية مشتَقّة من قَرَيْتُ أي: جمعت، تقول: قَرَيْتُ المَاءَ في الحَوْض، أي: جَمَعْتُهُ، واسم ذلك الماء قِرى بكسر القاف والمِقْرَاة للحوض، وجمعها مَقَارٍ، قال: الطويل:
عِظَام الْمَقَارِي ضَيْفُهُمْ لاَ يُفَزَّعُ

والقَرْيَان اسم لمجتمع الماء، والقَرْيَةُ في الأصل اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم، وقد يطلق عليهم مجازًا، وقوله تعالى: {واسأل القرية} [يوسف: 82] يحتمل الوجهين.
وقال الراغب: إنها اسم للموضع وللناس جميعًا، ويُسْتَعْمَل في كل واحد منهما والقِرْية بكسر القاف في لغة اليمن، واختلف في تعيينها.
فقال الجمهور: هي بيت المقدس.
وقال ابن عباس: أَرِيْحا وهي قرية الجَبَّارين، وكان فيها قوم من بَقِيَّةِ عَادٍ يقال لهم: العَمَالقة، ورئيسهم عوج بن علق.
وقال ابن كيسان: الشّام.
وقال الضحاك: الرَّمْلَة والأردنُّ، وفلسطين وتَدْمُرُ.
وقال مقاتلك إيليا.
وقيل: بلقاء.
وقيل: مصر.
والصحيح الأول، لقوله من المائدة: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ} [المائدة: 21].
قوله: {وَكُلوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} تقدّم الكلام على هذه المادة.
قوله: {الْبَابَ سُجَّدًا} حال من فاعل {ادْخُلُوا} وهو جمع سَاجِد.
قال أبو البقاء: وهو أبلغ من السجود، يعنيك أن جمعه على فُعَّل فيه من المُبَالغة ما ليس في جمعه على فُعُول.
وأصل باب: بَوَبٌ، لقولهم: أَبْوَاب، وقد يجمع على أَبْوِبة؛ لازدواج الكلام؛ قال: البسيط:
هَتَّاك أَخْبِيَةٍ وَلاَّجُ أَبْوِبَةٍ ** يَخْلِطُ بِالْجِدِّ مِنْهُ الْبِرَّ واللِّينا

ورواه الجَوهريُّ: البسيط:
يَخْلِطُ بالْبِرِّ مِنْهُ الْجِدَّ وَاللِّيْنَا

ولو أفرده لم يجزن ومثله قوله عليه الصلاة والسلام: «مرحبًا بالقَوْمِ أو بالوفد غير خَزَايَا ولا نَدامَى».
وتَبَوَّبْتُ بَوَّابًا اتخذته.
وأبواب مُبَوَّبة، كقولهم: أصناف مصنّفة، وهذا شيء من بابتك، أي: يصلح لك وتقدّم معنى السجود.
قوله: {وَقُولُوا} قال ابن كثير الواو هنا حالية لا عاطفة، أي: ادخلوا سُجَّدًا في حال قولكم حطّة.
وأما قوله: {حطّة} قرئ بالرّفع والنصب، فالرفع على أنه خبر متبدأ محذوف، أي: مسألتنا حطّة، أو أمرك حطة.
قال الزمخشري: والأصل النصب بمعنى: حُطّ عنا ذنوبنا حطّة، وإنما رفعت لتعطي مَعْنَى الثبات كقوله: الرجز:
يَشْكُو إِليَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى ** صَبْرٌ جَميلٌ فكِلانَا مُبْتَلى

والأصل: صبرًا عَلَيَّ، أصْبِرْ صبرًا، فجعله من باب {سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 24] وتكن الجملة في محلّ نصب بالقول.
وقال ابن عطية وقيل: أمروا أن يقولوها مرفوعة على هذا اللفظ.
يعني: على الحكاية، فعلى هذا تكون هي وحَدْهَا من غير تقدير شيء في محلّ نصب بالقول وإنما منع النصب حركة الحكاية.
وقال أيضًا: وقال عكرمة: أُمِرُوا أن يقولوا: لا إله إلا الله، لِتحطَّ بها ذنوبهم وحَكَى قَوْلَيْن آخرين بمعناه، ثم قال: فعلى هذه الأقوال تقتضي النَّصب، يعني أنه إذا كان المَعْنَى على أنّ المأمور به لا يتعيّن أن يكون بهذا اللَّفظ الخًا، بل بأيّ شيء يقتضي حطّ الخطيئة، فكان ينبغي أن ينتصب ما بعد القول مفعولًا به نحك قيل لزيد خيرًا، المعنى: قل له ما هو من جنس الْخُيُور.
وقال النَّحَاس: الرفع أولى، لما حكي عن العرب في معنى بَدَّل.
قال أحمد بن يحيى: بَدّلته أي غيرته، ولم أزل عينه، وأبْدَلْتُه أَزَلْتُ عينه وشَخْصَهُ؛ كقوله: الرجز:
عَزْلَ الأَمِيْرِ لِلأَمِير المُبْدَلِ

وقال تعالى: {ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15].
وبحديث ابن مسعود قالوا: حطّةٌ تغير على الرَّفع يعني: أن الله تعالى قال: فبدَّل الذي يقتضي التَّغيير لا زَوَالَ العين، قال: وهذا المعنى يقتضي الرَّفع لا النصب.
وقرأ ابن أبي عبلة: حطَّةً بالنصب وفيها وجهان:
أحدهما: أنها مصدر نائب عن الفعل، نحو: ضربًا زيدًا.
والثاني: أن تكون منصوبة بالقول، أي: قولوا هذا اللَّفظ بعينه، كما تقدم في وجه الرَّفع، فهي على الأوّل منصوبةٌ بالفعل المقدر، وذلك الفعل المقدر ومنصوبه في محل نصب بالقول، ورجح الزمخشري هذا الوجه.
والحطّة اسم الهَيْئَةِ من الْحَطِّ كالجِلْسَة والْقِعْدَة.
وقيل: هي لفظة أمروا بها، ولا ندري معناها.
وقيل: هي التَّوْبة، وأنشد: الخفيف:
فَازَ بِالْحِطَّةِ الَّتِي جَعَل الله ** بِهَا ذَنْبَ عَبدِهِ مَغْفُورَا

قوله: {نَغْفِرْ} هو مجزوم في جواب الأمر، وقد تقدم الخلاف، هل الجازم نفس الجملة، أو شرط مقدر؟ أي: يقولوا نغفر.
وقرئ: {نَغْفِرْ} بالنون وهو جار على ما قبله من قوله: {وإذ قلنا} و{تُغْفَر} بالتاء بالياء مبنيًّا للمفعول.
و{خطاياكم} مفعول لم يسم فاعله، فالتَّاء لتأنيث الخَطَايا، والياء؛ لأن تأنيثها غير حقيقين وللفصل أيضًا ب {لكم}.
وقرئ: {يغفر} مبنيًا للفاعل، وهو الله تعالى وهو في معنى القراءة الأولى، إلاّ أن فيه التفاتًا.
و{لكم} متعلّق ب {نغفر}.
وأدغم أبو عمرو الراء في اللاّم، والنحاة يستضعفونها، قالوا: لأن الرَّاء حرف تكرير فهي أقوى من اللام، والقاعدة أن الأضعف يدغم في الأقوى من غير عَكْسٍ، وليس فيها ضعف، لأن انحراف اللاّم يقاوم تكرير الراء.
وقد بَيَّن أبو البقاء ضعفه، وتقدم جوابه.
قوله: {خطاياكم}: إما منصوب بالفعل قبله، أو مرفوع حسب ما تقدّم من القراءات، وفيها أربعة أقوال:
أحدها: قول الخليل أنّ أصلها خَطَايئ بياء بعد الألف، ثم همزة؛ لأنها جمع خطيئة مثل: صَحِيْفة وصَحَايف، فلو تركت على حالها لوجب قَلْبُ الياء همزة؛ لأن مدة فَعَايل يفعل بها كذا، على ما تقرر في التصريف، فضر من ذلك، لئلا تجتمع همزتان، بأن قلب فقام اللام، وأخّر عنها المدّة فصارت: خَطَائي، فاستثقلت الكسرة على حرف ثقيل في نفسه، وبعده ياء من جنس الكَسْرَةِ فقلبوا الكسرة فتحة، فتحرك حرف العّلة، وانفتح ما قبله فقلبت ألفًا، فصارت: خَطَاءا بهمز بين ألفين، فاستثقلوا ذلك، فإنّ الهمزة تشبه الألف، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات، فقلبوا الهمزة ياء؛ لأنها واقعة موقعها قبل القَلْبِ، فصارت خَطَايَا على وزن فَعَالَى ففيها أربعة أعمال: قلب، وإبدال لكسرة فتحة، وقلب الياء ألفًان وإبدال الهمزة ياء، هكذا ذكر التصريفيون، وهو مذهب الخليل.
الثاني: وعزاه أبو البقاء إليه أيضًا أنه: خطائيء يهمزتين: الأولى منهما مكسورة وهي المنقلبة عن الياء الزائدة في خَطِيْئة فهو مثل صَحِيْفة وصَحَائف، فاستثقلوا الجمع بين الهمزتين، فنقلوا الهمزة الأولى إلى موضع الثانية، فصار وزنه فَعَلى، وإنما فَعَلوا ذلك، لتصير المكسورة ظرفًا، فتنقلب ياء، فتصير فعالىْ، ثم أبدلوا من كسرة الهمزة الأولى فتحة، فانقلبت الياء بعدا ألفًا كما قالوا في: يا لَهْفى ويا أَسَفى، فصارت الهمزة بين ألفين، فأبْدِل منها يا، لأن الهمزة قريبة من الألف، فاستنكروا اجتماع ثلاث ألفات.
فعلى هذا فيها خمسة تغييرات: تقديم اللام، وإبدال الكسرة فتحة، وإبدال الهمزة الأخيرة ياء، ثم إبدالها ألفًا، ثم إبدال الهمزة التي هي لام ياء.
والقول الأول أَوْلَى، لقلّة العمل، فيكون للخليل في المسألة قولان.
الثالث: قول سيبويه أن أصلها عنده: خَطَايئ كما تقدم، فأبدل الياء الزائدة همزة، فاجتمع همزتان، فأبدل الثانية منهما ياء لزومًا، ثم عمل العمل المتقدّمن ووزنها عند فَعَائل مثل: صَحَائف، وفيها على قوله خمسة تغييرات: إبدال الياء المزيدة همزة وإبدال الهمزة الأصلية ياء، وقلب الكسرة فتحة، وقلب الياء الاصلية ألفًا، وقلب الهمزة المزيدة ياء.
الرابع: قول الفَرَّاء، هو أن خَطَايا عنده ليس جمعًا لخطيئة بالهمز، إنما هو جمع لخَطِيّة كهَدِيَة وهَدَايا ورَكيّة ورَكَايَا.
قال الفراء: ولو جمعت خَطيئة مهمزة لقلت: خَطَاءا يعني: فلم تقلب الهمزة ياء، بل تبقيها على حالها، ولم يعتد باجتماع ثلاث ألفات.
ولكنه لم يقله العرب، فدلّ ذلك عنده أنه ليس جمعًا للمهموز.
وقال الكسائي: ولو جمعت مهموزة أدغمت الهمزة في الهمزة مثل: دواب.
وقرئ: {يَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيْئَاتِكُمْ} و{خَطِيْئَتَكُمْ} بالجمع والتوحيد، وبالياء والتاء على مالم يُسَمَّ فاعله، و{خَطَايَاكُمْ} بهمز الألف الأولى دون الثانية، وبالعكس.
والمعنى في هذه القراءات واحد؛ لأن الخطيئة إذا غفرها الله تعالى فقد غفرت، وإذا غفرت فإنما يغفرها الله.
والفعل إذا تقدّم الاسم المؤنث، وحال بينه وبين الفاعل حَائِلٌ جاز التذكير والتّأنيث كقوله تعالى: {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} [هود: 67].
و{وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ} [هود: 94].
وقرأ الجحدري: {خَطِيئتكم} بمدة وهمزة وتاء مرفوعة بعد الهمزة.
وقرأ ابن كثير: {خَطَايأكم} بهمزة قبل اكاف.
وقرأ الكسائي: بكسر الطاء والتاء، والباقون بإمالة الياء.
والغَفْر: السّتر، ومنه المِغْفَر: لِسُتْرة الرأسن وغفران الذُّنوب؛ لأنها تغطيها، وتقد تقدّم الفرق بينه وبين العَفُوا.
والغِفارَة: خِرْقَةٌ تستر الْخِمَار أن يَمَسَّه دهن الرأس.
والخَطِيئة من الخَطَأ، وأصله: العدول عن الجهة، وهو أنواع:
أحدها: إرادة غير ما تحسن إرادته، فيفعله، وهذا هو الأصل التام يقال منه: خَطِئ يَخْطَأ خِطًْا وخِطْأةً.
والثاني: أن يريد ما يحسن فعله، ولكن يقع بخلافه، يقال منه: أَخْطَأ إِخْطَاء، فهو مخطئ، وجملة الأمر أنَّ من أراد شيئًا، فاتفق منه غيره يقال: أخطأ، وإن وقع كما أراد، يقال: أصَاب، وقد يقال لمن فعل فعلًا لا يحسن أو أراد إرادة لا تجمل: إنه أخطأ ولهذا يقال: أَصَابَ الخَطَأ، وأَخْطَأَ الصَّوابَ، وأصاب الصواب، وأخطأ الخطأ. اهـ. باختصار.